[b]الحمد لله، خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد.
فهذا لقاء متجدد حول أسماء الله الحسنى، والإسم العظيم الذي سنعرض للحديث عنه في هذا اللقاء المبارك هو اسم [size=24]الرؤوف.
والرأفة أيها المبارك أخص من الرحمة أي أنه كما أن من أسماء الله الحسنى "الرحيم" فإن من أسماء الله الحسنى "الرؤوف" واسم الله الرؤوف هو موضوع لقائنا هذا.
قلنا أن الرأفه أخص من الرحمة بمعنى أن الرحمة أشمل وأعم من الرحمة، فالرحمة قد يكون ظاهر حالها غير حسن لكن الاعتبار بالمآل،
آما الرأفة فتكون مآلها وحالها كلاهما حسن ولهذا قال الله جل وعلا لما ذكر رجم الزناة قال تبارك وتعالى (وَلَا تَأْخُذْكُم بهما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) ولم يقل ولا تأخذكم بهما رحمة في دين الله لأن الرحمة حاصلة باعتبار ما سيكون ، فان في جلدهما بلا شك تطهير لهما عما اقترفاه لكنه لما قال سبحانه "ولا تأخذكم بهما رأفة" دل على أن الرأفه أرق، ولو أخذتنا بهما رأفه لما جلدناهما - هذا كله في حق العباد-
وهنا نستصحب قاعدة عظيمه جليلة عندما نتكلم عن وصف أسماء الله الحسنى، هذه القاعدة يجب أن تكون معنا في سائر لقاءاتنا وحرج علينا أن نكررها كل مرة، لكن ينبغي لمن أراد أن يعرف أسماء الله الحسنى وصفاته العلى أن يستصحبها في كل حال:-
الأول: أن الله تبارك وتعالى إنما يُسمى ويُوصف بما سمى به نفسه وبما وصف به - جل وعلا - ذاته العليا ،كما أنه يُسمى ويُوصف بما سماه به ووصف به رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: كما أن صفات الله وأسمائه الحسنى غير مشابهه لأسماء وأوصاف المخلوقين من أى وجه كان.
والأمر الثالث: أن الإنسان يقطع الطمع في كيفية العلم بأوصاف الله جل وعلا قال الله جل وعلا (ولا يحيطون به علماً ).
نعود أيها المبارك إلى وصف الله تبارك وتعالى وتسمية ذاته العليا بأنه "رؤوف رحيم ".
كلمة "رؤوف" يسمى بها غير الله , قال الله جل وعلا في حق نبيه (بالمؤمنين رؤوف رحيم) وقال جل وعلا في حق ذاته العلية (انه بهم رؤوف رحيم) فعلى هذا بينا في التقعيد قبل قليل أن هناك فرق ما بين رأفة النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره مخلوق، وبين رأفة الله جل وعلا باعتباره تبارك وتعالى خالق لا خالق إلا هو
.
على هذا نقول: سنضرب مثلا يبين لك أيها المؤمن عظيم رأفة الله جل وعلا بقوله في حق المجاهدين (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُالْعَظِيمُ}(التوبة) الآن أنخ المطايا، وتأمل هذا السياق القرآنى تعرف معنى الرأفة هنا.
- هناك مشترِى، وهناك مشترَى، وهناك ثمن - فالمشترِى هنا هو" الله" يقول ( إن الله اشترَى )، وهناك مشترِى وهو "نفس المؤمن وماله"، وهناك ثمن وهو "الجنة".
لو تأملت الحقيقة: الجنة ملك لمن؟ ملك لله! ، والنفس والمال ملكا لمن ؟ ملك لله! ليست مُلكا للعبد، فالله تبارك وتعالى يشترى منا مُلكه بمُلكه، يشترى منا ملكه وهو" النفس والمال" بملكه تبارك وتعالى وهو" الجنة"، وهذا من رأفته جل وعلا بعباده.
وقد حررنا أن الرأفة أخص من الرحمة، فالرحمة يمكن أن تشمل الكافر والمؤمن والبر والفاجر لكن الرأفة لا تشمل إلا عباد الله المؤمنين
ومن رأفته تبارك وتعالى بعباده أنه يهيئ لهم أسباب التوبة، ثم بعد ذلك يمن عليهم خالقهم جل جلاله بما وصف به نفسه من الرأفة أنه يقبل منهم تلك التوبة.
ألا ترى إلى الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة العسرة! فإنهم خلفوا بقدر الله، ثم إن الله جل وعلا غرس في قلوبهم الإيمان والصدق والتوبة والأوبة، وقدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واخبروا انه لا عذر لهم، واعترفوا بذنبهم، وأنهم فرطوا في جنب الله تبارك وتعالى.
فمن الذي ألهمهم هذا اللوم والعتاب وتقريع النفس؟ إنه ربهم تبارك وتعالى، ثم ساقهم جل وعلى - رأفة بهم - إلى أن يتوبوا فأعلنوا توبتهم ثم إنه - جل وعلا - توّج عطاياه لهم بأن قبل منهم تلك التوبة، وهذا غاية ما يريده العبد قال الله تعالى (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ) لهذا ختم الله جل وعلا هذه الآيات بقوله (إنه بهم رؤوف رحيم) فانظر إلى التناسب ما بين قوله تبارك وتعالى (ثم تاب عليهم ليتوبوا) أى هيئ لهم أسباب التوبة وقبل منهم التوبة ثم ختم الآيات بقوله (انه بهم رؤوف) فهذا مجمل ما دل عليه القول من أن الرأفة اخص من الرحمة.
كذلك أيها المؤمن من رأفة الرب تبارك وتعالى بعباده المؤمنين أنه جل وعلا تحدث عن سُوق الناس في بَيعهم لأنفسهم فقال (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ) ثم قال (وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ).
وقبلها قال جل ذكره (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ{204} وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ{205} وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ{206}.
فقارن بين رجلين - رجل يظهر مالا يبطن ويسعى في الأرض فسادا - كيف ختم الله جل وعلى الآيات بقوله (والله لا يحب الفساد)؟ وقد ذكر المفسرون أن النموذج الأول هو صهيب، وأيما كان الأمر - صهيب أو غيره - فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمن الناس من يشرى نفسه أى يبيعها من أجل الرب تبارك وتعالى.
والناس عندما يغدون من بيوتهم يخرجون من بيوتهم صباحا ومساءا إنما هم في سوق عمل - سوق عمل للآخرة - فمن عرف حال نفسه واشترى ما عند الله تبارك وتعالى فهذا الذي حقت عليه رأفة الله جل وعلا به!
لأن توفيقه للعمل الصالح من رأفة الرب تبارك وتعالى به، ولهذا قال الله في حق صهيبٍ، ومن تبع صهيباً قال (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ).إذاً كيف يكون الله رؤوفاً بالعباد؟
يكون رؤوفاً بالعباد بأن يوفقهم للعمل الصالح، والتوفيق للعمل الصالح من رأفة الرب تبارك وتعالى بعبده.
وإذا أراد العبد أن يعرف أين هو من رأفة الله جل وعل به؟ فلينظر أين هو من العمل الصالح؟ فكلما ازدلفت ودنوت واقتربت من العمل الصالح وطاعة ربك وألهمت الاستغفار على تقصيرك فأنت في رأفة الرب تبارك وتعالى. ولا يمكن أن يقال هذا عن الرحمة عموماً، لأن الرحمة إذا أطلقت كما حررنا تطلق على البر والفاجر فالله جل وعلا مثلا سمى الغيث رحمة (وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته) ومع ذلك هذا الغيث الذي هو رحمة ينزل على ديار الكفر فلا يكون بهم رحمة خاصة، لكن الرأفة لا تكون إلا لأهل الطاعة, إلا لأهل الإيمان ,إلا لأهل التقوى، فمن رأفة الله جل وعلا بعبده أن يوفقه إلى العمل الصالح.
وقد قلنا إن الرأفة خير كلها باعتبار حالها واعتبار مآلها، أما الرحمة فقد تكون ممزوجة مخلوطة - مقرونة بتعبير أوضح بالبلاء عادة - لكن مآلها إلى العفو إلى الصفح إلى الغفران إلى أعالي الجنان
هذا الاسم العظيم به يدعى الرب تبارك وتعالى ويتأكد الدعاء في حالٍ يغلب على الظن من المرء أنه في كرب عظيم، فقد تصيب الإنسان أحياناً حالة جزع لا ينتظر معها رحمة مقرونة ببلاء، وإنما يريد أن يخلص من الكرب الذي هو فيه فيكون التأكيد بدعاء الله جل وعلا بأنه رؤوف أوكد وأحرى في المقام من غيره من الأسماء.
وحتى يتحقق لنا أن نصل الى هذه المنحة الإلهية والعطية الربانية يجب أن نعلم أن تحقيق معنى العبودية معين على ذلك لأن الله تبارك وتعالى قال (والله رؤوف بالعباد) فتحقيق معنى العبودية ينجم عنه رأفة الله جل وعلا بنا،
ورأفة الله جل وعلى بنا إذا حققنا معنى العبودية مقامها أو معناها: أن نعرف معنى العبودية!
ونحن نجملها في كلمات ثلاث [محبة الله ،الخوف منه، الرجاء فيما عنده] فهذه الثلاث إذا حققها العبد حقق معنى العبودية، وتحقيق معنى العبودية يسوق لنا منحه إلهيه وعطية ربانيه بناءاً على وعده القرآنى في قوله جل ذكره (والله رؤوف بالعباد).
والمؤمن أيها المبارك متى أحسن الظن بالله وعلم أن الله جل وعلا أرحم به من نفسه وأنه أعلم بما يصلحه حق له بعد ذلك أن يطمئن قلبه.
والرب تبارك وتعالى إذا رأف بعبده ورحمه ما كان أحد يصل إليه أبداً بأذىً أو بسوء، اللهم إلا أذىً أو سوءاً ينجم عنه بعد ذلك فضل كبير قد يُخفى ويتوارى عن العبد، لكن العبرة بالمآل ، العبرة بتحقيق المقصود ولا مقصود أعظم من أن نعبد الله جل وعلا على النحو الأتم والوجه الأكمل وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى وألبسنا الله وإياكم لباس العافية والتقوى هذا والعلم عند الله والحمد لله رب العالمين
المقدم : الشيخ / صالح بن عواد المغامسي
[/size][/b]